حسين مرتضى الكاتب والكتاب

ناصر قنديل
ينتمي حسين مرتضى إلى الجيل الذي أعقب جيلنا في حمل الرسالة الإعلامية المساندة للمقاومة. وقد لفت انتباهي كظاهرة صاعدة خلال العقدين الأخيرين، عبر حمل لواءين شديدي الصعوبة وكثيري المخاطر معاً. لواء المراسل الحربي المتواجد دائماً في الخطوط الأمامية بين المقاتلين، المرافق للاقتحامات، المعرّض للاستشهاد والإصابة في كل مرة، المستعدّ للتضحية ولكن القادر على نقل رسالة الميدان واستخلاص أبرز ما فيها كمادة إعلامية، يمهّد لها، يواكبها ويستخلص نتائجها على كل جبهة وفي كل جولة. ولواء الحرب النفسيّة التي تشتغل على معنويات الجبهة الداخلية التي تعرّضت لضغوط استثنائية خصوصاً في حرب تموز 2006 وتالياً في الحرب الكونية التي استهدفت سورية، فيزرع الثقة واليقين بالنصر، ويستثمر على مصادر القوة ويقدّمها بلغة جاذبة. والحرب النفسية تشتغل بالتوازي على جبهة القوى المعادية، يخوض غمارها حسين مرتضى يزرع فيها الشك والشقاق ويستثمر على نقاط الضعف ويضع التحديات، واثقاً بانتصار المقاومة وهزيمة أعدائها.
في المواجهات التي خاضتها المقاومة مع كيان الاحتلال وجيشه، ومع الجامعات الإرهابية وتشكيلاتها، كان حسين مرتضى أحد الأوائل الذين يتخذون من خطوط النار مقراً لهم، أحب المقاتلين وأحبوه، وصار واحداً منهم، يبثّ لهم مشاعر الحب ويبادلونه مثلها، وصار رسولهم لدى الرأي العام. وقد أصيب مثلهم عدة مرات، وعاد الى الجبهات يحمل جراحه قبل أن تشفى، فاستحق تقدير جمهور المقاومة وتعلقه واحترامه ومتابعته، واستفزّ جبهة الأعداء وغيظها وغضبها وأحقادها، وصار هدفاً لحملاتها الإعلامية والأمنية أيضاً.

في هذه المواجهات تصدّر حسين مرتضى الذين خاضوا الحرب النفسية. وفي المرتين، المواجهة مع الاحتلال والمواجهة مع الجماعات الإرهابية، سرعان ما تحول إلى أحد رموز هذه الحرب البارزين، إن لم يكن أبرزهم، ويكفي للدلالة على دوره وحجم تأثيره على جبهات الأعداء الانتباه الى السجالات العلنية التي دارت بينه وبين رموز الحرب الإعلامية والنفسية في معسكر الاحتلال ومعسكر الإرهاب. وتذكر مصطلحات حسين مرتضى التي حفرت في الذاكرة، الباصات الخضر، والقضامة وقصقصة البزر وأكل الشعيبية، وحتى الأمس كان حسين عنوان حملات وطرفاً في سجالات مع أبو مالك التلي وأفيخاي أدرعي وايدي كوهين، وكان هدفاً لشائعات وحروب تشويه.
حسين مرتضى لم يكن جزءاً من خطة وضعتها المقاومة وكلّفته بالمهمة، ولم يقم أحد بإعداده لمتطلبات النجاح فيها. حسين مرتضى نظر الى الحرب وحدد موقعه فيها، أولاً لجهة الخيار القاطع باليقين، وثانياً لجهة رؤية الحاجات والأولويات والنواقص، وتطوّع لسد ثغرات وجد أنها تحتاج لمن يتطوّع لها ويخاطر، يخاطر بتحدّي الأهلية والنجاح، فيخاطر بالتعرض لنيران الأعداء الكلامية وأحياناً وكثيراً النيران الحقيقية القاتلة.
كما يستعدّ المرء للصلاة بالنية ثم بالوضوء ثم بإتقان الفروض والنصوص، قام حسين مرتضى في وجهتي حربه، كمراسل حربي ورأس حربة في الحرب النفسية، الى عقد النية ثم توضأ وحفظ تسلسل أجزاء صلاته ونصوصها. وهي هنا أولاً تعمّق في فهم المشهد العسكري وأنواع السلاح وتشكيلات القوات وطبيعة الجبهات، وإلا كيف يمكن تحليل الجبهة عسكرياً وشرحها للمتلقي من موقع المراسل الحربيّ المحترف، وثانياً فهم جبهة الأعداء وبنائها الفكري والسياسي والعقائدي، ونقاط ضعفها والتناقضات فيها، ورسم لنفسه خطة ومساراً أخذ يحفر فيه بلا هوادة حتى بلوغ الهدف.
كان مستحيلاً لحسين مرتضى أن يلمع كواحد من عناوين ونجوم المراسلين الحربيين، وواحد من نجوم الحرب النفسية، لولا اثنتان، الإيمان الراسخ بالمقاومة ونصرها وقيادتها، وثانياً الاستعداد للتعلم والتدرب، التسلح بوعي سياسي ومعرفة بالعلوم العسكرية والإعلامية، مشتغلا على تثقيف نفسه بما تمتلئ به الكتب، والتقارير ومصادر المعلومات، فيعدّ ملفاته ويتقنها.
بخلاف الذين يفاجئهم دخول حسين مرتضى ميدان الكتابة والبحث الفكري، كان طبيعياً لمسار حسين مرتضى أن ينتهي به هنا حيث هذا الكتاب، لأن حسين مرتضى كان في مساره باحثاً أصلا لكن دون نشر بحوثه بل العمل بخلاصاتها ونتائجها.
الكتاب
على طريقة البحث ذاتها التي مهّدت لنجاحه كمراسل حربي محترف ورأس حربة في الحرب النفسية، أي البحث عن المعلومات التي تشكل البنية الخفية في جبهة الأعداء وكيف تشتغل هياكلها وتتخذ القرارات فيها، حاول حسين مرتضى في هذا الكتاب أن يقدّم لنا حشداً من الوقائع والاقتباسات والمعلومات التي تقول هذا هو العالم الحقيقيّ والخفيّ لصناعة السياسة الدولية.
الكتاب يمتاز بالتركيز على كمية المعلومات والوقائع، ويقدم التحليل بطريقة سلسة ربما لا تعجب الذي اعتادوا البحوث التقليدية التي يعرض فيها الكاتب بعض الوقائع ويكثر من نصوصه التحليليّة لها، فاختار أن يعرض تحليله عبر طريقة عرض هذه الوقائع وتسلسلها، مستعيناً بمقتطفات موثقة من 45 كتاباً و190 موقعاً إلكترونياً، ليثبت لنا أن العالم لا يُدار من حيث نرى واجهة صناعة القرار في عناوين الرئاسات والوزارات، وأن الأهداف الخفيّة لمركز الإدارة الحقيقي لهذا العالم ليست هي الأهداف التي نقرأ عنها، سواء من مؤيديها أو عن معارضيها. فالمعركة لا تدور حول الديمقراطية وحقوق الإنسان ولا على كيفية استخدام هذه العناوين، ذلك أن الحرب الحقيقية في القرن الحادي والعشرين، هي الحرب على كيفية إعادة صياغة العقل البشري والنظرة الى النفس الانسانية، والتحكم بطريقة تفكيرها، وتحديد رغباتها. وساحة الحرب لم تعد الميدان العسكري، إلا بمقدار ما يمثل تتويجاً لميادين أخرى أكثر أهمية وخطورة، تمثل حرب الأفكار والقيم أهمها وأبرزها وساحتها عقول الناس.
فيما لم يهمل الكاتب استقراء الحروب المركبة بالنسبة لجبهة مناوئة الهيمنة الأميركية والغربية على العالم، وأدواتها وآلياتها، محاولاً استكشاف مراكز التحكم الفعلي في صناعة القرار في روسيا والصين وإيران، إلا أن جهده الكبير كان لاستكشاف ذلك في مركز الثقل الذي يصنع السياسة والحروب في العالم، محاولاً أن يجيب عن سؤال من يحكم أميركا؟ وماذا يريد من خطته لحكم العالم عبرها؟ وكيف يسعى لتحقيق هذا الهدف؟
يعرض الكتاب أمامنا معلومات دقيقة عن أسماء الشركات المهيمنة في أميركا والغرب وكيف أنها تتولى إدارة الاقتصاد والسياسة والإعلام والحروب والعقوبات، وتشكل بالتالي الدولة العميقة لحكم العالم وليس أميركا فقط.
في مسار بناء تجربته الإعلامية اكتشف حسين مرتضى طريقة الكتابة بالحبر السريّ للتعليق والتحليل، وهو الوصف الذي أطلقه على طريقة تعتمدها وسائل الإعلام الغربية العملاقة، التي نادراً ما تقدم تحليلاً، لكنها تعمد لتسويق تحليلاتها عبر إحدى طريقتين، الأولى هي الاكتفاء بنشر سلسلة من الأخبار، يمكن لطريقة تسلسلها أن تبدو سياقاً لإطلاق عملية ذهنية توصل المتلقي إلى استنتاج محدد هو المطلوب إيصاله من التحليل، وسوف يكون قوله أضعف بكثير من إنتاجه بعملية ذهنية افتراضية شديدة الفعالية، بحيث يصبح الاستنتاج متماهياً مع شخص المتلقي فيتمسك به بصفته استنتاجه. فعلى سبيل المثال عندما يرد خبر ان حركة حماس تعلن الاستعداد لقبول الدولة الفلسطينية وتسليم سلاحها للجيش الوطني الفلسطيني عند قيام الدولة، ويسبق هذا الخبر خبر آخر يقول إن واشنطن تتساءل عن كيف يمكن القبول ببقاء حماس في قطاع غزة وأن تكون جزءاً من المشهد السياسي والحكومي وهي تدعو لزوال “إسرائيل” وتتمسك بسلاحها تحت هذا الشعار، وقد سبق لها أن قامت بما قامت به في 7 أكتوبر، وثم يلي الخبرين خبر ثالث يقول “وكانت قيادة حركة حماس قد عقدت اجتماعاً مطولاً مع الرئيس التركي ووزير خارجيته وأجرى وزير الخارجية التركي بعد اللقاء اتصالاً بنظيره الأميركي. وفي وقت لاحق أعلن وزير الخارجية التركي ان حركة حماس غير متمسكة ببقاء سلاحها إذا تم قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967”.
إن الاستنتاج التلقائي هنا هو أن حماس استجابت لعروض وضغوط أميركيّة حملها الأتراك للتخلّي عن مطالبتها بزوال “إسرائيل” وقيام دولة فلسطينية على أراضي العام 67، وهي في هذا الإطار مستعدة للتخلي عن سلاحها. بينما لو نشرت هذه الاخبار بطريقة ترتبط بتسلسل حدوثها، لمرّت بينها أخبار أخرى، وتبين أن موقف حماس تكرار لمواقف سابقة، وكان للمتلقي أن يختار ربط إعادة صدورها بالحرب على غزة كتكتيك سياسي لملاقاة دعوات الصين وروسيا لإعادة توحيد الصف الوطني الفلسطيني تحت شعار بناء دولة فلسطينية مستقلة للتمكن من تفعيل حملة الاعتراف بدولة فلسطين عالمياً بصفتها المؤسسة الجامعة لكل الفلسطينيين ووفقاً لمخرجات المبادرات السياسية لحل القضية الفلسطينية، أو اعتباره كما شاء ناشر الأخبار المتسلسلة. أما الطريقة الثانية للتحليل بالحبر السري، فتقوم على سرد الخبر ومن ثم إيراد فقرة تحمل اسم والجدير ذكره، وعلى سبيل المثال عام 2015 عندما تمّ توقيع الاتفاق النووي الإيراني، ورد الخبر في الـ “بي بي سي” يقول: إن ايران ودول مجموعة الـ 5+1 يوقعون على اتفاق حول الملف النووي الإيراني يتضمن موافقة إيران التوقف عن تخصيب اليورانيوم على درجات عالية وعلى إتلاف عدد من منشآتها وتفكيك بعضها وخضوعها للتفتيش المفاجئ من قبل الوكالة الدولة للطاقة الذرية. والجدير ذكره ان ايران كنت ترفض هذه الطلبات في سياق المفاوضات، بينما ورد الخبر في قناة روسيا اليوم بصيغة، تم التوصل الى اتفاق بين إيران ودول مجموعة الـ 5+1 حول ملف ايران النووي يتضمن الموافقة على تكريس حق إيران بتخصيب اليورانيوم والحفاظ على وحدات الطرد المركزي في منشآتها، بينما وافقت إيران على الالتزام بنسبة تخصيب منخفضة وتفكيك ما يتصل من منشآتها بالتخصيب المرتفع، وقبول الخضوع للتفتيش لتأكيد هذا الالتزام ونالت إيران بموجب الاتفاق الغاء جميع العقوبات التي كانت تطال مؤسساتها والحجز المفروض على أموالها. والجدير ذكره ان الدول الغربية وأميركا خصوصاً كانت ترفض قيام ايران بعمليات التخصيب، وأن تحتفظ بأجهزة الطرد المركزي، وأن تربط رفع العقوبات ورفع الحظر بفترة اختبار تمتد بين خمس وعشر سنوات. والحقيقة هي ان الخبر يتضمن مجموع ما ورد في الخبرين الجديرين بالذكر، لكن كل واحد منهما منفردا يقود الى انطباع معاكس للآخر، واحد يقول إن إيران هزمت واستسلمت والآخر يقول إنها انتصرت، والحقيقة أن الاتفاق تسوية لكنها راجحة لصالح إيران.
التحليل بالحبر السريّ بهاتين الطريقتين سوف نجده في كتاب حسين مرتضى، حيث يقول استنتاجاته بطريقة تسلسل سرد اقتباساته ومواده التوثيقيّة المستقاة من مصادرها من دون أن يحتاج إلى تقديم نصوص مطوّلة في عرض استنتاجاته وتحليله. وهذا ما يسيطر على كتاب حسين مرتضى في التحليل في القسم الأول خصوصاً ما يتصل بأدوات الحرب الأميركية الناعمة، بينما يلجأ إلى معادلة التذكير والاستطراد بحاشية سردية توضح مادة معلوماتية، يؤدي الجمع بينهما إلى استنتاج تحليلي.
لن أفسد متعة الحضور بالحديث عن أقسام الكتاب وحجم ما يقدّمه من فائدة معرفية للقارئ لكنني أكتفي بدعوتكم الى التنبّه إلى كتابة التحليل بالحبر السري بدل التفتيش عن النصوص التي أضافها مرتضى بقلمه، وفيما يرى البعض أن طغيان التوثيق على سرد الاستنتاجات، علامة ضعف أراه ميزة الكتاب، الذي اخترق العوالم الخفيّة لصناعة القرار عبر العالم وتحدث معنا من تحت الطاولة داعياً للنظر بعيون حسين مرتضى لمعرفة كيف تُدار اللعبة.
هذا الكتاب يشبه الكاتب، كما كان يوثق بعدسته مشاهد تتكلم وغير قابلة للنفي، يقدم بعدسته العقلية هنا مشاهد نتخيّلها معه وتصبح وقائع غير قابلة للنقض.
ينضمّ حسين مرتضى رسمياً عبر هذا الكتاب الى نادي الباحثين بعدما أقام في غرف البحث لعقدين على الأقل صنعا لنا حسين مرتضى الذي أحببناه مراسلاً حربياً ورأس حربة في الحرب النفسية، دون أن ينتبه الكثيرون أن وراء هذا النجاح عمل بحثي منهجي مضنٍ، لكنه يكتب بالحبر السري.
حسين مرتضى بالحبر السريّ آن الأوان لأن نسلّط عليه الضوء ونصفق.